عفا عن الجراح كان له ومن عفا عن النفس لم يحقن بذلك دمه وقد بينا هذا.
مسألة: قال: ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه الحد.
الفصل
الحقوق التي تجب على المحاربة على ثلاث أضربٍ حق يختص بالمحاربة وحق لا يختص بها وحق يختلف فيه، فأما ما يختص بها فانحتام القتل والصلب وقطع الرجل فلا يخلو من أن يتوب قبل القدرة عليه أو بعدها فإن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء منها لقوله تعالى:{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ [١٠٠/أ] أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}[المائدة: ٣٤] فجعل من شرط سقوطها بالتوبة أن تكون قبل القدرة عليهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقطت هذه الأحكام وبقي القتل مستحقًا غير متحتم ويكون إلى مشيئة الولي فإن شاء قتل، وإن شاء عفا عنه على مالٍ، وإن شاء عفا عنه على غير مالٍ.
وأما الذي لا يختص بها فعلى ضربين: أحدهما: لله تعالى كحد الشرب واللواط والزنا، والثاني: للآدمي كالقصاص وحد القذف وغرامة المال فهو للآدمي لا يسقط بالتوبة بحالٍ لأن التوبة إنما تؤثر في حق الله تعالى دون حق العباد، هكذا ذكر جماعة أصحابنا، وقال صاحب "الإفصاح": إذا قلنا: الحد الذي يختص بالمحاربة مما هو حق لله تعالى كحد الزنا والشرب يسقط بالتوبة ففي حد القذف والقصاص وجهان مخرجان: أحدهما: يسقطان لأنهما يسقطان بالشبهة كحد الله تعالى، والثاني: لا يسقطان وهذا تخريج فاسد لما ذكرنا من العلة وغلط صاحب "الإفصاح" فيه وفي حكايته عن ابن أبي هريرة فإنه ذكر في كتابه ما ذكرنا ويلزم الاستغفار عن مثل هذا.
ومن أصحابنا من قال: يسقط حد القذف دون القصاص لأنه لا يرجع إلى بدلٍ بخلاف القصاص وهذا أفسد من الأول لأنه حق الآدمي كالقصاص سواء، وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: يسقط عنه جميع الحقوق لله تعالى وللآدميين من الربا والأموال بالتوبة ولا يقول بهذا [١٠٠/ب] أحد من الفقهاء، وقال مالك: يسقط الكل إلا الدماء لتغليظها على ما سواها.
وأما ما هو لله تعالى فهل يسقط بمجرد التوبة؟ قال الشافعي رضي الله عنه في موضع: ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة وبه أقول ففي المسألة قولان ظاهران أحدهما: يسقط بالتوبة وهو الأصح لقوله تعالى في حد الزنا: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا}[النساء: ١٦] وقال في حق السارق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}[المائدة: ٣٩] وقال صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب لما قبلها" وروى وائل بن حجر رضي الله عنه أن امرأةً وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد فاستغاث برجلٍمرَّ عليها وفرَّ صاحبها ثم مرَّ عليها قوم ذو عددٍ فاستغاثت بهم