فلما عادوا ذكروا ذلك فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صل الله عليه وسلم.
فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس عبادة بن الصامت وغيره فبايعوه على الإسلام بيعة النساء وذلك على {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ}[الممتحنة: ١٢] الآية فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله صل الله عليه وسلم مصعب ابن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فقدم معهم ونزل على أسعد بن زرارة ودعا الأنصار إلى الإسلام فأسلموا على يده قوم بعد قوم وكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وهما سيدا قومهما بني عبد الأشهل أنكرا ذلك حتى قرأ عليهما مصعب سورة الزخرف فلما سمعاها أسلما وأسلم في تلك الليلة جميع بني عبد الأشهل من الرجال والنساء وكانوا أول قوم أسلم جميعهم وصلى مصعب بالناس الجمعة في حرة بني بياضة وهي أول جمعة صليت [١٦٢/أ] في الإسلام وعاد مصعب إلى رسول الله صل الله عليه وسلم بمكة فذكر له من أسلم من أهل المدينة فسره ثم لما كان العام المقبل حج من الأوس والخزرج سبعون رجلاً وكان فيهم البراء بن معرور فصلى إلى الكعبة حين قدم على رسول الله صل الله عليه وسلم وقال: لا أتركها وراء ظهري ثم سأله فيها فقال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فعاد واستقبل بيت المقدس فكان أول من استقبل الكعبة وهو من تصدق بثلث ماله.
وواعد رسول الله صل الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق فباتوا تلك الليلة في رحالهم ثم خرجوا منها بعد ثلث الليل لوعد رسول الله صل الله عليه وسلم فحضروا شعب العقبة ووافى رسول الله صل الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وأبو بكر وعلي فوقف العباس وعلياً على فم الشعب عيناً له ووقف أبو بكر على فم الطريق عيناً لهم وتلا عليهم رسول الله صل الله عليه وسلم القرآن وأخذ عليهم الإسلام فأسلموا جميعاً وقد كان فيهم من لم يكن قد أسلم ثم قال للعباس وهو على دين قومه: خذ عليهم العهد وكانوا أخواله لأن أم عبد المطلب كانت سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج فقال العباس: يا معشر الخزرج إن محمداً آمناً في عز قومه ومنعةٍ من بلده وقد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم فإن منعتموه مما تمنعون من أنفسكم [١٦٢/ب] وإلا فدعوه بين قومه وفي بلده فقال البراء بن معرور: بل نمنعه مما نمنع نه أنفسنا وأبناءنا فقال أبو الهيثم بن التيهان: إن بيننا وبين الناس حبالاً يعني عهوداً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صل الله عليه وسلم وقال: "الدم الدم، والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم "فأقبل أبو الهيثم على الأنصار ثم قال: يا قوم هذا رسول الله حقاً وأشهد أنه لصادق وأنه لفي حرم الله وبين عشيرته وأعلموا أنكم إن تخرجوه إليكم ترميكم العرب عن قوسٍ واحدةٍ فإن كانت أنفسكم قد طابت للقتال وذهاب الأموال والأولاد فادعوه وإلا فمن الآن، فقالوا: يا رسول الله اشترط علينا لربك ولنفسك ما تريد فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني فيما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم فأجابوا وأحسنوا.