فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد اشترطت لنفسك ولربك فماذا لنا إذا وفينا لله ولرسوله فقال: لكم على الله الجنة فقال: قد قبلنا من الله ما أعطانا ثم قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "اختاروا منكم اثنى عشر نقيباً كما اختار موسى عليه السلام من قومه وقال للنقباء: انتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين [١٦٣/أ] لعيسى ابن مريم عليه السلام قالوا: نعم فبايعوه على هذا ثم عاد رسول الله صل الله عليه وسلم فعادت الفتنة أشد مما كانت في فتنة الهجرة غلى الحبشة واشتد الأذى بأصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: "إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها" فخرجوا جماعة جماعة ورسول الله صل الله عليه وسلم مقيم بمكة ينتظر إذن الله تعالى واستأذنه أبو بكر الصديق في الهجرة فاستوقفه.
وأسريب رسول الله صل الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والسماوات قبل هجرته بسنة فأصبح وقص ذلك على قريش وذكر لهم المعراج فازداد المشركون تكذيباً. وروي أنه لما صارت المدينة دار هجرة وأسلم الأنصار خافت قريش أن ينصروا رسول الله صل الله عليه وسلم فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره وسمي ذلك اليوم لكثرة زحامهم فيه يوم الزحمة وكانت عادتهم إذا اجتمعوا للمشاورة لا يدخل عليهم أحد من غيرهم فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أين جئت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم لأنكم أحداث وأنا شيخ رأيت الأمور وجربتها فنظرت في رأيكم فقالوا: ادخل فدخل إبليس لعنة الله عليهم فقال الحارث بن هشام احبسوه في بيت وسدوا بابه وطينوه واتركوه فيه وابعثوا إليه [١٦٣/ب] كل يوم رغيفاً وكوز ماء تتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة فقال إبليس لعنه الله: ليس هذا برأي لأن بني هاشم تخرجه من البيت وتسرحه من أيديكم، وقال أبو البحتري بن هشام: من شأنكم أن تأخذوا جملاً هائجاً وتشدوه عليه ثم تخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما قال فقال إبليس لعنه الله: ما هذا برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه والله إن فعلتم ذلك ليستجمعن عليكم خلقاً ثم ليأتينكم فقال أبو جهل: من شانكم أن تأخذوا من أربعين قبيلة من كل قبيلة غلاماً شاباً ثم تعطون كل غلام سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ثم إن بني هاشم قبيلة واحدة وقريش أربعون قبيلة ولا يمكنهم أن يطلبوا القصاص في أربعين قبيلة ثم نعطيهم الدية حتى تنجوا. فقال عدو الله إبليس لعنه الله: هذا هو الرأي فتفرقوا وهم مجتمعون على ذلك فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صل الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأخبره بمكر القوم فلم يبت في بيته وأذن الله تعالى له في الخروج إلى المدينة وأنزل بعد قدومه المدينة سورة الأنفال {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ}[الأنفال: ٣٠] أي ليحسبوك سجناً أو يقتلوك جميعاً أو يخرجوك طرداً مشدوداً [١٦٤/أ] على الإبل ويمكرون ويريدون هلاكك يا محمد، ويمكر الله أي: يقتلهم يوم بدر والله خير الماكرين. والمكر من الله بمعنى؟ ثم أعلم أبا بكر بالهجرة وخرج إلى الغار معه، وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يمشي ساعة بين يدي رسول الله صل الله عليه وسلم وساعة خلفه