مقامه بمكة منهيًا عن القتال مأمورٍا بالصفح والإعراض قال الله تعالى:{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}] الحجر: ٩٤] أي: أظهر الإنذار بالوحي وأعرض عن المشركين أي: عن قتالهم وإسرائهم، وقال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}] النحل: ١٢٥] أي دين ربك وهو الإسلام {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}] ١٦٩/أ] أي: بالقرآن ولين من القول {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالرشاد على قدر ما يحتملون، وروي عن ابن عمر رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((أمرنا معاشر الأنبياء لأن نكلم الناس على قدر عقولهم)). ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فصارت دار الإسلام فأذن الله تعالى أن يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه فقال:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}] البقرة: ١٩٠] ثم ازدادت قوة الإسلام فأذن فيها بقتال من رأى إذنًا خيره فيه ولم يفرضه عليه فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}] الحج: ٣٩] ولم يقطع بنصرهم بل قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج: ٣٩] لأنه لم يفرض عليهم ولما فرض الجهاد قطع بنصرهم فقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}] الحج: ٤٠] وغزا بدرًا وهو في الجهاد مخير ولهذا خرج بعض أصحابه ثم قوي أمره بنصرة بدر ففرض الله الجهاد فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ}[التوبة: ٧٣].
وجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالوعظ إن كتموا وبالسيف إن أعلنوا وقوله {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي لا تقبل عليهم عذرًا، وقال تعالى للكافة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي: الصبر على الشهادة وطلب النكاية في العدو دون الغنيمة ثم بين تعالى فرضه عليهم فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}] البقرة: ٢١٦] أي: فرض وهو مكروه في أنفسكم [١٦٩/ب] وشاق على أبدانكم فإذا ثبت هذا فقد كان في ابتداء فرضه مخصوص الزمان والمكان والزمان ما عدا الأشهر الحرم والمكان ما عدا الحرم على ما ذكرنا ثم أباح فيها قتال من قاتل فقال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}] البقرة: ١٩٤] فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم ففي إشهار الحرمات قصاص ثم أباح الله تعالى فيها قتال من قاتل ومن لم يقاتل فقال:} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}] البقرة: ٢١٧] الآية فأعلمهم أن حرمة الدين أعظم من حرمة الشهر الحرام ومعصية الكفر أعظم من معصية القتال فصار لتحريم القتال في الأشهر الحرم ثلاثة أحوال تحريمه فيها لمن قاتل ومن لم يقاتل، ثم الإباحة لقتال من قاتل ومن لم يقاتل، وقال عطاء: هذه الحالة الثالثة غير مباحة ولا يستباح إلا قتال من قاتل وهذا خطأ لقوله تعالى في تعليل الإباحة: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ {ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة، وأما في الحرم كان القتال حراماً على العموم لقوله تعالى:} وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: ٩٧] ثم أباح قتال من قاتل خاصةً فقال: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ}[البقرة: ١٩١] ثم أباح قتال الكل بقوله