ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط قوله، وتشاغل أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة، ومانعي الزكاة، وتطاولت الأيام بعمر رضي الله عنه وتكاملت له جزيرة العرب، وفتح ما جاورها، نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فاجتمع رأيه، ورأي الصحابة، رضي الله عنهم على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء وصناع، يحتاج المسلمون إليهم فضرب لمن قدم منهم تاجرًا، وصانعًا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم، بعدها أخرجوا، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها:"أقركم ما أقركم الله" فدل على أن مقامهم غير مستدام، وأن لحظره فيهم حكمًا مستجدًا.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب فمات قبل نفيهم" ولأن الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى، ومبعث رسالته ومستقر دينه، ومهاجرة رسوله صلى الله عليه وسلم صارف أشرف من غيره، فكانت حرمته أغلظ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك كالحرم.
فإذا ثبت حظر استيطان أهل الذمة للحجاز، فيجوز أن يدخلوه دخول المسافرين لا يقيموا من موضع منه أكثر من ثلاثة أيام، لأن عمر حين أجلاهم ضرب لمن قدم منهم تاجرًا أو صانعًا مقام ثلاثة أيام، فكان هذا القدر مستثنى من الحظر، استدل به على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" محمول على الاستيطان دون الاجتياز؛ ولأن الله تعالى يقول:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}] التوبة: ٦] ويكفيه أن يهتدي سماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث؛ ولأنه لما انخفضت حرمة الحجاز عن الحرم، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في الحرم، وحرم عليهم من استيطان الحجاز ما استباحوه في غيره، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها. ويمنعون من دخول الحجاز، وإن كانوا أهل ذمة إلا بإذن الإمام، لأن مقصوده التصرف دون الأمان. فلو أذن لهم واحد من المسلمين لم يجز أن يدخلوا بإذنه، وإن كان لو أذن لحربي جاز أن يدخل دار الإسلام بإذنه.
والفرق بينهما: أن المقصود بإذنه للحربي أمانه، وأمان الواحد من المسلمين يجوز، والمقصود بإذنه للذمي في دخول الحجاز التصرف المقصور على إذن الإمام فلو دخل ذمي بغير إذن غزر وأخرج ولا يغنم ماله؛ لأن له بالذمة أمانًا ولو دخل