وما كان بهذه المنزلة من الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلًا في البذلة، وليس ما فعله عن الصدر الأول بذلة، لأنه لم يخرج من عرف أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلي الآخرة.
وقد روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت".
ولأن إقدامه على البذلة والعدول عن الصيانة دليل على اطراح الصيانة والتحفظ في حق نفسه فكان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره.
والثالث: أنه إن كان قد نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته وإن استحدثها في كبيرة قدحت في عدالته؛ لأنه يصير بالمنشأ مطبوعًا بها وبالاستحداث مختارًا لها.
والرابع: إن اختصت بالدين قدحت في عدالته كالبول قائمًا وفي الماء الراكد، وكشف العورة إذا خلا، وإن يتحدث بمساوئ الناس، وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته. كالأكل في الطريق وكشف الرأس "بين الناس"والمشي حافيًا، لأن مروءة الدين مشروعة ومروءة الدنيا مستحسنة.
فصل:
وأما الصنائع فضربان: مسترذل وغير مسترذل.
فأما غير المسترذل كالزراعة والصناعة، فغير قادح في العدالة، لأنها مما لا يستغني الناس عن الاكتساب بصنائعهم ومتاجرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"وإن من الذنوب ما لا يكفر صوم ولا صلاة ويكفره عرق الجبين في طلب الحرفة".
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله".
فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكذب الناس الصباغون والصواغون"قيل: هذا موقوف على أبي هريرة وليس بمسند، لأنه سمع قومًا يرجفون بشيء فقال: كذبة قالها الصباغون والصواغون.