وأما الحالة الثانية: وهو أن يرجعوا بعد نفوذ الحكم بشهادتهم وقبل استيفاء الحق، فلا يخلو أن يكون ما شهدوا به من أن يكون مالا أو غير مالا، فإن كان مالا، لم ينقض حكمه به وأمضاه، وهذا قول جمهور الفقهاء.
وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: ينقضي الحكم برجوعهم لإبطال هذه الشهادة بالرجوع. وهذا فاسد من وجهين:
أحدهما: أن الحكم إذا نفذ بالاجتهاد، لم ينقض بالاحتمال والاجتهاد تغليب صدقهم في الشهادة والاحتمال جواز كذبهم في الرجوع.
والثاني: أن في شهادتهم إثبات حق يجري مجري الإقرار، وفي رجوعهم نفي ذلك الحق الجاري مجري الإنكار فلما يبطل الحكم بالإقرار لحدوث الإنكار لم يبطل الحكم بالشهادة لحدوث الرجوع.
وإن كان ما شهدوا به ليس بمال، فعلي ضربين:
أحدهما: أن يكون مما لا يبطل بالشبهة كالنكاح والطلاق، فهو كالمال في نفوذ الحكم به. فلا يبطل برجوع الشهود.
والثاني: أن يكون مما يسقط بالشبهة كالحدود، وهو علي ضربين:
أحدهما: أن يكون من حقوق الله تعالي المحضة كالزنا وجلد الخمر وقطع السرقة فيسقط برجوع الشهود كما يسقط برجوع المقر، لأن رجوع المشهود شبهة تدرأ بمثلها الحدود.
والثاني: أن يكون من حقوق الآدميين المحضة كالقصاص.
وحد القذف فعلي ضربين:
أحدهما: أن يكون مما إذا سقط بالشبهة رجع إلي الدية التي لا تسقط بالشبهة، فليسقط برجوع الشهود، القصاص، ولا تسقط الدية.
والثاني أن يكون مما إذا سقط بالشبهة لم يرجع إلي بدل، كحد القذف، ففي سقوطه برجوع شهوده وجهان:
أحدهما: تسقط بالرجوع، لأنها شبهة تدرأ بمثلها الحدود.
والثاني: تسقط بالرجوع لأنه من حقوق الآدميين المغلظة.
وأما الحالة الثالثة: وهو أن يرجع الشهود بعد نفوذ الحكم واستيفاء الحق، فالحكم علي نفاذه لا ينقض برجوع شهوده، بعد استيفاء الحق، وهو قول جمهور الفقهاء.
وحكي عن سعيد بن المسيب، والأوزاعي أن الحكم ينقض برجوعهم، لأنهم بالرجوع غير شهود.
وهذا فاسد من وجهين.
أحدهما: أن الرجوع مخالف للشهادة فلا يخلو أحدهما من الكذب، فصار كل