للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وانتقلت دارنا إلى الصالحية فأخرجني أبي من المدرسة الجقمقية، وفارقت جوّ الأموي الذي تحيا به الأرواح وتنتعش النفوس، يوم كان الأموي قلبَ دمشق: الدار القريبة هي التي تقرب منه والبعيدة هي التي تبعد عنه. وكان مثابة الناس؛ يجلسون فيه في «الحرم» في الشتاء، وفي الصيف يقعدون في الصحن، حيث النسيم الرخيّ لا ينقطع والماء يتدفق من (فوّهة) البركة، والرُّواق الفخم من حولهم والمآذن الثلاث (١) تطل عليهم، ويطل معها أربعون قرناً من الزمان من يوم كان معبداً وثنياً إلى أن أصبح كنيسة نصرانية، إلى أن شرّفه الله بالإسلام وضوّأ جوانبه بنور الإيمان، فكان بذلك (أي في جاهليته وفي إسلامه) أقدم المعابد القائمة في الدنيا، كما أن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة على الأرض.

كذلك كان الأموي، فهل تدرون اليوم ما حاله؟ كانت دمشق تحوطه بذراعيها وتعطف عليه جوانحها، تعيش بقربه وتحيا بحبه لا تستطيع الابتعاد عنه؛ صباحها فيه ومساؤها، ونهارها بجواره وليلها، فتركَته وسارت مشرّقة وسارت مغرّبة، وبقي وحده حيث كان.

وسرنا نحن مع من سار، وإن لم ننكر عهده ولم ننسَ ودّه. انتقلنا من منزلنا الصغير في آخر العُقَيْبة إلى دار كبيرة فسيحة الأرجاء، كثيرة الغرف والأَبْهاء، قريب منها الشجر والماء. الشجر


(١) المئذنة الشرقية (وتسمى مئذنة عيسى)، والمئذنة الغربية (التي تطل على المِسكيّة، وتسمى أيضاً مئذنة قايتْباي)، ومئذنة العروس، وهي أبهى مآذن الأموي وتقوم في الجهة الشمالية للمسجد (مجاهد).

<<  <  ج: ص:  >  >>