لقد نسيت الكثير من ذكرياتي، ولكن ليس كل ما تخطّيته قد نسيته. لقد كنت كالسائح في الأرض، يرى عجائبها ويزور مدنها ويقف على آثارها ويستمتع بجمالها، قد خَطّ له خطاً يمشي في رحلته عليه، فيمرّ على بلد فيقولون له: لو تيامنت قليلاً لرأيت ما تحبّ رؤيته، فيميل إلى اليمين. فإذا رأى ما أعجبه رغب في غيره، فتحوّل عن طريقه واتخذ له طريقاً آخر، وهذا الآخر عدل به إلى ثالث ... كذلك صنعت في كتابة هذه الذكريات.
بدأت بدايات تركتها بلا نهايات. تكلّمت عن نقلي قاضياً إلى محكمة دمشق ووصفت ما أحدثت في معاملاتها الإدارية، ثم تركتها وشرعت أتكلّم عن المؤتمر الذي حضرته، وهو مؤتمر القدس سنة ١٩٥٣، ثم فتحت سيرة رحلة المشرق التي مشينا فيها إلى الهند وسنغافورة وآخر أندونيسيا، فلم أكَد أصل إلى كراتشي وأشرع بالحديث عنها حتى حلّت ذكرى الجلاء، فتكلمت عن الجلاء وما جرّه هذا الكلام الذي لم أنتَهِ منه إلى الآن.