كنت يومئذ شاباً، لا زوجة لي ولا ولد، ولا أَرَب لي في لهو أرتاد أماكنه ولا شغل من أشغال الدنيا أسعى وراءه، فكان وقتي كله للمطالعة وللتدريس. كنت مع الطلاّب دائماً، في غرفة الدرس وفي الفرصة بين الدرسين، وفي الطريق إلى البيت بعد الدروس. يلحقونني، يحفّون بي يسألونني، أدلّهم على كتب فيقرؤونها ثم يأتون إليّ ليناقشوني فيما قرؤوا فيها. ولم تكن سنّي تزيد كثيراً على أسنانهم، فلقد كنت على عتبة الثلاثين وكان أكثرهم فوق العشرين، فما بيني وبينهم إلاّ بضع سنين. ويكون معنا غالباً أنور رحمه الله، وهو سَنيني (أي في مثل سِنّي).
وسألتهم مرّة: أين إيوان كسرى؟ قالوا: قريب.
ولم أدرِ أنهم في هذا على طريقة البدو في بوادي الشام؛ إذا قالوا قريب أو قالوا على رمية حجر يكون المكان على مسيرة يوم أو أكثر ساعات اليوم! قلت: وكيف لنا بالذهاب؟ قالوا: نحن نذهب معك، نركب من الباب الشرقي. وهم يلفظون القاف جيماً معطّشة (وبعض العرب يلفظونها كافاً فارسية، وأهل الشام ومصر