وقفت في آخر الحلقة السابقة عند الحادثة التي وقعت لأبي عَجاج. أرويها لأني وعدت بروايتها، ولأني أرجو أن أرسم بها الابتسامة على شفاهكم بعد أن وضعت بقصّة أمي الحزن في قلوبكم والدمع في عيونكم. وقد قال لي ناس: إن كتابتك عن أمك فيها صنعة، والمحزون لا يشتغل ببلاغة القول ولا يتحدث عن حارات الشام وألوان الطعام فيها. وجوابي أني أكتب عن الحادثة بعد بضع وخمسين سنة، ولو كتبت عنها في يومها لما جاء الكلام كما قرأتم، بل لما استطعت أن أكتب أبداً. أما رأيتم أني لمّا حاولت الكتابة عن الحادث الجديد، حادث بنتي، لم أستطع؟ ثم إن الأديب لا ينسى صناعته مهما تألّم. هذا رثاء الخنساء أخاها صخراً ومتمم بن نُوَيرة أخاه مالكاً. وأبو ذؤيب وبشار وابن الرومي والتهامي لمّا رثوا أولادهم، وجرير والطّغرائي والبارودي وأباظة لمّا رثوا زوجاتهم ... هل نسي واحد منهم أسلوبه في التعبير وفنّه في القول، إلاّ أن ينسى نفسه وينكر طبعه؟ ومتى وصف العامّي مشاعر نفسه مثلما يصف مشاعرَه الأديب؟ فَلِمَ لا يكون الصدق