ذهبت إليها مدرّساً، وكان ذلك في عهد الشباب، كما جئت مكّة الآن مدرّساً بعدما ولّى الشباب، فرأيت في بغداد زملاء كراماً وطُلاّباً أنجاباً، مثل الذين رأيتهم هنا من كرام الزملاء ومن نُجباء الطلاّب. ولا تزال ذكرى من عرفت في بغداد واضحة لعيني، وإن كان يفصل بيني وبينهم فاصل ما بين سنة ١٩٣٦ و١٩٨٣. وأنا أكتب الآن عن ذكريات بغداد بعد نحو خمسين سنة، فهل أعيش حتى أكتب عن ذكريات مكّة بعد خمس سنين؟ إن العمر بيد الله، ولا أسأل الله المزيد منه إلاّ إن كانت معه الصحّة والعمل الصالح، وكان بعده الغفران.
ذهبت إلى بغداد، ولم أكُن أعرف عنها إلاّ ماضيها؛ لا أدري ما بغداد اليوم وما الرُّصَافة وما الكَرْخ وما الكَرّادة، ولا أدري مَن في بغداد من ناس: ما صفاتهم؟ ما خلائقهم؟ ماذا يعلمون وماذا يجهلون؟ ماذا يحبّون وماذا يكرهون؟ ولا أدري ما الكوفة اليوم: ماذا فعل بها الزمان؟ وما البصرة وما الموصل؟