أتكلم اليوم عن رحلتي الرابعة إلى مصر، وكانت قبل أربعين سنة كاملة، وقد وصلتُ معكم في الحلقة الماضية إليها ووقفنا في الروضة عند مقياس النيل الأثري.
مصر التي كانت أم الدنيا، كانت الأم ومدائنُ العرب بناتُها، كانت العروس وهنّ وصيفاتها، كانت أوسعَها سعة وأنظفها نظافة وأحسنها ترتيباً وأزهاها رونقاً، ليس للعرب جامعة إلاّ جامعتها، أمّا جامعها الأزهر فكان فحل الجامعات وكان مثابة العلم وكان كعبة الطلاّب، وكان يحمل على عاتقه أمجاد ألف سنة.
الأزهر كان فيها، والمطابع الكبرى مطابعها، والجرائد جرائدها، وأعلام الأدب وأئمة العلم فيها. كانت كبغداد أيام عزّ بني العباس التي قلت فيها (في «الرسالة» عدد ١٧ رمضان سنة ١٣٥٨): "يا بلد العلم والتقى واللهو والفسوق، والمجد والغنى والفقر والخمول، يا موئل العربية ويا قبّة الإسلام، يابلداً فيه من كل شيء". كان في مصر المساجد فيها الأئمة القرّاء وفيها المدرّسون الخطباء، وفي المساجد قبور عندها البدع