أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلاّ التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي أنا إلاّ ذكريات فيها الألم المرّ. مَن يقفز قفزة لا يقوى عليها يسقط بعدها سقطة قد لا ينهض منها، وأنا قفزت من ذكريات سنة ١٩٤٧ في مصر إلى سنة ١٩٧٠ في ألمانيا. وهل في ذكرياتي عن ألمانيا إلاّ بنتي؟ لولاها ما وطئت ثرى تلك البلاد. وما لي فيها؟ وهل أستطيع أن أحدّث عن رحلتي إليها من غير أن يكون الحديث عن بنتي؟ وهل أستطيع أن أتحدث عن بنتي وجرحُها لم يلتئم بعدُ في قلبي؟
على أنني رجعت بالذكرى إلى أيام صِغَري فوجدت أن عيدي -من يوم عرفت العيد- ممزوج فيه السرور بالكدر، يختلط فيه هتاف المعيّدين بنُواح المفجوعين، وتتجاور فيه الحياة في أحلى صورها بالموت في أجلى مظاهره. ذلك أن أعيادنا لمّا كنت صغيراً كانت تُقام في حيّنا في المقبرة (وكانت مقبرة الدحداح في طرف دمشق فصارت الآن في وسط وسطها)، ولا تزال صورتها من أقدم الصور المحفورة في نفسي حفراً؛ كنا ندخل إليها من حارة ضيقة لا يعدو عرضها المترين فنصير في ساحة واسعة،