كنّا نذكر الحرب الأولى التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً ثم لا يجد أمواته قبراً، لأن الحرب لم تُبقِ من الرجال من يقدر على حفر قبر! نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب الثانية فنراها سلاماً علينا وأمناً، لم نَجُعْ فيها ولم نَعْرَ ولم تَنَلْ منّا منالاً، اللهمّ إلاّ ما نالت بأظافر بعض التجّار وأنيابهم إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مئة ضعف! وما قلّت السلع ولا تبدّلت، ولكنه الطمع والجشع ورِقّة الدين وضعف الخلق.
واستمرّ مرير الحرب وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلاّ على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا وتدنو أحياناً منّا: امتدّ لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنّا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك -لعمري- إلاّ الألسنة والقلوب. ثم دنت منّا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا، وما جانبت مصر ولا تولّت عنها تلك القلوب.