ثم أصبحنا ذات يوم (يوم الجمعة ٢٠ حزيران ١٩٤١) على صوت الرادّ (الراديو) يقول: إن الحرب في «الكِسْوة» على أبواب دمشق، فنظرنا إليها فلم نجد إلاّ جبل «المانع» وما فيه أثر لحرب، فكذّبنا وأنكرنا. فقال العارفون إن المعركة وراء هذه الجبال وأكدوا ذلك، ولكنا لبثنا مكذّبين. فلم تكن إلاّ ليال حتّى بدت في الأفق القِبْلي (١) من دمشق ومضات المدافع، نراها من حيّنا حيّ المهاجرين على سفح جبل قاسيون، وسمعنا أصواتها، فصدقنا ما قال الرادّ وأيقنّا أنْ قد بلغَتنا هذه الحرب. ولكنّا لم نُكبرها ولم يُصِبْنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها ولا وصل إلينا أُوارها.
ثم دنَت منّا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع المزة وقاسيون فاهتزّت لها دمشق، ولكن أفئدة أهلها لم تهتزّ، بل راحوا يؤمّون السفح يُشرفون منه على المعركة وهي دانية منهم، أصواتها في آذانهم وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وإنهم لفي إشرافهم هذا واجتماعهم في المهاجرين عشيّة ذلك اليوم، يتحدّثون في أمر الجيش المهاجم من الفرنسيين الديغوليين الذي عرض على الجيش الفرنسي في دمشق (من أتباع الماريشال بيتان) أن تكون دمشق مدينة مكشوفة كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب فتجعل عامرها يباباً وقصورها تلالاً، فأبى المقاتلون من الفرنسيين في الشام فعرّضوا بإبائهم دمشق للأذى. وما يعنيهم أذاها، ولا تُهدَم لهم إذا هي تخرّبت دارٌ ولا يُفجَعون في زوج ولا ولد، لأنهم غرباء عنها واغلون عليها أعداء لها.
(١) أي الجنوبي؛ لأن القبلة في دمشق إلى الجنوب (مجاهد).