لمّا شرعت أكتب هذه الذكريات ما كنت أقدّر أن تبلغ أربعاً وعشرين حلقة، فوفّق الله حتى صارت مئتين وأربعين، وما استنفدت كل ما عندي ولا أفرغت كل ما في ذهني، فقد جاءت على نمط عجيب، ما سرتُ فيها على الطريق المعروف ولا اتّبعت فيها الأسلوب المألوف، فلم تجِئ مرتَّبة مع السنين ولا مقسَّمة تقسيم الأحداث والوقائع، وما كانت تستقيم دائماً على الجادة بل تذهب يميناً وتذهب شمالاً، أبدأ الحديث فلا أُتِمّه وأشرع في آخرَ فلا أستكمله، وما أدري كيف احتمل القراء واحتمل الأستاذان الكريمان الناشران هذا كله مني.
وأنا أعرف أن من عيوبي الاستطراد، ولكني لا أملك التخلص من هذا العيب، ولعلّه من أثر إدمان النظر في كتب الأدب العربي القديم، كتب شيخنا الجاحظ ومن نحا منحاه واتّبع أثره. وأنا عاكف على هذه الكتب أنظر فيها لا أفارقها، من يوم تعلّمت القراءة وأنا ابن عشر سنين إلى أن جاوزت الثمانين.