كنت قبل أن ألي القضاء وبعد أن أنهيت عهد الطلب وأيام الدراسة، كنت عاكفاً على كتب الأدب والتاريخ، قلّما أنظر في كتاب فقه أو أصول إلاّ إن احتجت إلى مراجعة مسألة أو تحقيقها. ولكني كنت على ذلك أقرأ في اليوم عشرين أو ثلاثين صفحة من مثل كتاب «الخراج» لأبي يوسف أو كتاب «الأم» للشافعي أو «المبسوط» للسَّرَخْسي، لا لاستيعاب ما فيه ولكن إعجاباً بأسلوبه واستئناساً ببلاغة عبارته وسلامة لغته. كذلك كانت كتبنا الأولى، ثم فسد الأسلوب وغلبَت عليه العُجمة وبَعُدَ عن السليقة العربية، وتفرّع عن ذلك الأسلوب قراراتُ المحاكم ووثائقُها فمالت إلى التطويل الذي لا داعي له والتكرار المملّ، على ما فيها من الركاكة والضعف، حتّى صار يُضرَب المثل بها، فمَن رأى رسالة طويلة زادت عن حدّها قال: إنها ليست رسالة ولكنها حُجّة شرعية!
وكانت الحُجَج تُكتب على ورق سميك وتُلَفّ لفاً تبدو معه كأنها قنبلة أو عصاً غليظة تهشّم رأس قارئها! ثم تهذّبَت حواشيها قليلاً قبل استلامي محكمة دمشق ولكنْ بقيَت مليئة بالحشو