ولست أستطيع الآن -بعد أربع وخمسين سنة من إكمالي الدراسة في الجامعة- أن أعدّ من نبغ من رفاقنا من الذين قامت نهضتنا في هذا القرن على أكتافهم وصنعتها أيديهم، كان أكثرهم من أصحابنا، ممن كان معنا أو سبقنا قليلاً أو تأخّر عنا قليلاً. كان منهم أكثر رجال السياسة وأرباب الحكم وأعلام الأدب والعلم وأقطاب التربية والتعليم؛ ذلك أننا كنا في صباح نهار جديد طال علينا الليل قبله، واستمرّ قرناً أو قرنين قضيناهما نائمين متخلّفين عن ركب الحضارة بعيدين عن كل جديد، في الفنّ أو في الفكر. ومَن طلع عليه الصباح بعد الليل الطويل والنوم العميق يقوم كأنه نشط من عقال، فهو ممتلئ قوة وتوثُّباً، وكذلك كنا.
كنا نستبق العمل، كل في المجال الذي يستطيع أن يمشي فيه والعمل الذي يقدّر أنه يؤدّيه، وكان إقبالنا أكثره على اللغة، نعود إليها بعدما ابتعدنا عنها، نقبل ما ورثنا من روائعها ونصوصها ونجمع فُصُحَها وشواردها، نتصيّدها ونمسك بها، فعرفنا الأدب القوي العبقري بعدما غبرنا دهراً على مثل أدب ابن الوردي: