اعتزِلْ ذِكْرَ الأغاني والغَزَلْ ... وقُلِ الفَصْلَ وجانِبْ مَنْ هَزَلْ
وأقبلنا على أصول كتب الأدب بعد أن كان عكوفنا على المستطرَف وعلى الكشكول وعلى المِخلاة وعلى كتب ما ندعوه الآن -اصطلاحاً- بعصر الانحطاط، وما كنا نحسب أنه هو غاية الأدب التي لا نعرف أبعد منها وذروته التي نحاول أن نعلوها ونظن أنه لا يُعلى عليها، وكانت مقامات الحريري وبديع الزمان وهذا الأدب المصنوع من اللفظ المسجوع أبعدَ ما كنا نتمنى. ولقد خبّرني بشارة الخوري، الشاعر الذي لقّب نفسه (لنصرانيّته) بالأخطل الصغير، خبّرني أنه جاوز العشرين ولم يقرأ شيئاً لأبيتمام ولا للبحتري ولا لابن الرومي.
وقد نشأنا نحن في أوائل هذه النهضة، فكانت حياتنا حياة جِدّ وإقبال على القراءة وتصيُّد لكتب الأدب، نقضي في ذلك فضل وقتنا كله. والطبقةُ التي كانت قبلنا وشهدَت مولد هذه النهضة كانت أكثر منا جداً وحفاظاً على الوقت وإقبالاً على الدرس، سمعتُ تفصيل ذلك من أستاذنا محمد كرد علي ومن خالي الأستاذ محب الدين الخطيب ومن الأمير شكيب أرسلان، وممن كُتب لي أن ألقاه أو أن أستفيد منه من رجال هذه الطبقة. وكنا نحن أكثر إقبالاً على المطالعة وعلى الصبر عليها وعلى العكوف على أمّات كتب الأدب من الطبقة التي جاءت بعدنا، وما زال النقص مستمراً والهبوط متتالياً حتى وصلنا إلى ما نراه الآن.
ولمّا كنت أدرّس الطلاب في المدارس الثانوية في عقد الثلاثينيات من هذا القرن كانت قد ظهرت الرسالة والثقافة