ومن سيّئ عاداتي أنني أكتب من ستين سنة كاملة ولكني لا أكتب إلاّ للنشر، وأني أسوّف وأؤخّر حتى لا يبقى بيني وبين موعد تسليم المقالة أو إلقاء المحاضرة أو إعداد البحث إلاّ الوقت الذي لا يتّسع إلاّ له، فأركض ركض الأرنب لا أمشي مشي السلحفاة. وأنا أقول من قديم أنْ قد كذب لافونتين وافترى، فما سبقَت السلحفاة أرنباً قطّ ولو نام على الطريق!
وكنت أفارقكم كل خميس على أن ألقاكم في الخميس الذي بعده، ولكن فراق اليوم إلى غير لقاء. لقد أحسستُ أنكم مللتم من ذكرياتي، وحقّ لكم أن تملّوا، فما أنا بالسياسي الذي يشارك في صنع التاريخ فيسرد عليكم جانباً من التاريخ الذي شارك في صنعه، ولا بالزعيم الذي يعمل على توجيه الشعب فيحدّثكم عمّا وجّه إليه شعبه، ولا بالناقد الذي استحدث مذهباً في الأدب مشى فيه ودعا إليه، فيحدّد لكم مذهبه ويبيّن لكم معالمه. ما أنا إلاّ واحد من غمار الناس، إن كتبت فلقد كتب كثيرون مثلَ الذي كتبت، وإن علّمت التلاميذ أو قضيت بين الناس فلقد كان واحداً من مئات المعلّمين والقضاة، ولكن الله أكرمه فجاء مبكّراً ونبغ قبل أوان نبوغ أمثاله. وقد يُقبَل من السابق ما لا يُقبَل من اللاحق، ولو أن رجلاً صنع الآن طيّارة كالتي طار بها رايت وأخوه وعرضها للبيع لَما اشتراها أحد بمئة ريال، ولكن طيارة الأخوين لو وُجدت لبيعت بمئات الآلاف. وسيارة فورد التي كنت أركبها إلى مدرستي في غوطة دمشق التي كنت أعلّم فيها الأولاد سنة ١٩٣١ لو طُرحت في المزاد لعدل ثمنها أثمان عشر سيارات جديدة.