كان فيها شجرة ضخمة لا أزال أذكرها ممتدّة الفروع كثيفة الظل، وحولها بيوت فقيرة جداً في حارة كانت تُسمّى «المعمَّشة». ولعلّ مَن سمّاها اشتقّ اسمها من «العَمَش»، فمَن كان فيها لا يبصر من الدنيا إلاّ صوراً مشوَّهة كالتي يراها الأعمش. ثم نمرّ إلى المقبرة فنرى إلى اليمين جدولاً صغيراً غائراً في الأرض على طرفَيه أشجار شديدة الخضرة يانعة المنظر نامية الفروع. وكيف لا تنمو وتخضرّ والجدول الذي يسقيها لم يكن إلاّ الماء الذي يخرج من المجاري؟ وعلى كتف الجدول ساقية لم تكن نظيفة، ولكنها بالنسبة إلى الجدول فيها العذب الزّلال.
وكان من أثر هذه الساقية في نفسي أن كتبت عنها في السنين الأولى من «الرسالة»(في عدد لم أعُد أذكر تاريخه) مقالة ضافية الذيول فيها ذكريات وفيها تاريخ، لا أزال راضياً عنها على مرور أكثر من خمسين سنة عليها، على حين لا أرضى الآن عن كثير مما كتبت (١).
وكان من عاداتنا التي نشأنا عليها صغاراً واستمررنا عليها كباراً أن نذهب صباح العيد -بعد أداء حقّ الله بالصلاة- في أداء حقّ الأموات بالزيارة والدعاء. فأنّى لي الآن وهذا يومُ العيد أن أقوم بهذا الذي كنت أراه واجباً عليّ؟ كيف أصل إلى القبرين اللذين ضمّا أحبّ اثنين إليّ، أبي وأمي، وبيني وبينهما ما بين مكة والشام؟ وكيف أصل إلى القبر الثاوي في ضاحية مدينة آخن في
(١) هي مقالة «ساقية في دمشق»، نُشرت في الرسالة سنة ١٩٣٥، وهي في كتاب «دمشق» (مجاهد).