ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها؟ ما كان يخطر على بالي يوماً أن يكون في قائمة من أزور أجداثَهم بنتي، ويا ليتني استطعت أن أفديها بنفسي وأن أكون أنا المقتول دونها. وهل في الدنيا أب لا يفتدي بنفسه بنتَه؟ إذن لَمِتُّ مرة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً، بينما أنا أموت الآن كل يوم مرة أو مرتين، أموت كلما خطرت ذكراها على قلبي:
فما لي أعاود الآن محاولة تذكّرها والكتابة عنها؟ أما حاولت أن أكتب ستّ مرات من قبلُ ثم عجزت؟ إن المصاب أكبر من أن ينهض به قلمي ثم يجري وهو يحمل وقره على القرطاس، فيقرأ الناس فصلاً أدبياً يستمتعون بقراءته ساعة ولا يدرون كم بذلتُ في كتابته.
لقد كانت الأيام التي قضيتها في ألمانيا وبلجيكا وهولندا من أمتع أيام حياتي، وكانت هي مصدر متعتها ومبعث جمالها، كانت المصباح الذي ينوّر لي ما حولي فأراه، فماذا أصف بعدما انطفأ المصباح وانكسر زجاجه؟ لذلك أدع الحديث عنها وأستبقي ألمي لنفسي، وإن ضاق به صدري وعجز عنه احتمالي، ذلك لأنني مؤمن بأنها من الشهداء، والشهداء أحياء عند ربهم ولكن لا نشعر نحن بحياتهم. أدع الحديث عنها وأتحدّث عن عملها حديثاً لعلّ فيه للقراء نفعاً، ذلك لأن الشبّان والشابّات في أوربا على حافّة الدخول في الإسلام، ما بينهم وبينه إلاّ أن يأتيهم مَن يعرّفهم به ويدلّهم عليه، على أن يكون عارفاً بنفسياتهم، يفكّر بمثل تفكيرهم