للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كنت أعرف من بغداد ماضيها. وبغداد الماضي جنّة مسحورة من جِنان الأحلام وليلة مجسّمة من ألف ليلة وليلة: عيون المَها بين الرُّصافة والجسر، وفُتون الهوى في الكوخ وفي القصر، وفي الطرق إغراء وسحر وفي الساحات إنشاد وشعر. وبغداد مدرسة الدين: في كلّ بيت حلقة حديث ومجلس علم، ومجمع هداية ومكان ذِكر. وبغداد سوق الدنيا: إليها تُحمَل ثمرات الأرض ومنها تُحمَل الثمرات إلى الأرض.

تلك بغداد الماضي. لم تكن الصلات الثقافية بينها وبين دمشق كالتي ترون اليوم؛ إنما تكون الصلات بين بلدَين مختلفَين وقُطرَين متباينَين، لا بين عضوين ملتصقَين وأخوَين متّفقَين. وبغداد الماضي بنت دمشق وأم القاهرة، وبغداد ودمشق والقاهرة بنات المدينة المنورة، وبغداد ودمشق مدينتان من قُطر واحد، ليستا مثل لندن وباريس بل هما مثل نيويورك وواشنطن. إن فرّقَت بين البلدان الأديانُ فالدين فيهما واحد، أو فصلَت بين الأمكنة الألسنةُ فاللسان فيهما واحد، أو باعدَت الأهدافُ فالهدف واحد، والماضي واحد وفي المستقبل أمل واحد، والحاكم في البلدين واحد، والعلم واحد. وحدة في كلّ شيء، بغداد بلد الشامي والشام موطن ابن بغداد.

هذا ما كنت أعرف عن بغداد وعن العراق. فإن سألتَني -بعد هذا- ما فعل الله بالعراق بعدما فُصل بين العضوَين وبوعد بين الشقيقَين، وتمّ ما أُريدَ لنا لا ما أردناه لأنفسنا، فصار الواحد اثنين وصار القُطر حكومتين، إن سألتَني عن العراق الحديث لم تكن تجد عندي يومئذ من خبره إلاّ قليلاً لا يشفي غليلاً.

<<  <  ج: ص:  >  >>