للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما عشت في بغداد صارت بغداد مهوى القلب، وصارت بغداد مثوى الحبّ، وصارت بغداد أحبّ البلدان إليّ بعد دمشق، وصار دجلة أحلى الأنهار عندي بعد بردى، وصارت «الأبوذية» أطرب الأنغام في أذني بعد «العَتابا»، وصار السمك المَسْكوف ألذّ الأطعمة عندي بعد القوزي.

وصرت أعرف بغداد: مسالكها ومنازلها، وخيرها وشرّها، وطبائع أهليها وخلائق ساكنيها، مثلما أعرف دمشق وأعرف القاهرة وأعرف بيروت، ومثلما عرفت أشرف البلدان وأحبها إلى قلب كلّ مسلم منزل الوحي ومدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، المدينة التي وُلد فيها والمدينة التي هاجر إليها. وصار لي من أهل بغداد إخوان أحبهم ويحبونني وأشتاقهم ويشتاقونني.

فما الذي فعل ذلك كله؟ ما الذي وصل بيني وبين بغداد بعد التقاطع؟ ماالذي صيّرني عراقياً مثلما أنا مصري الأصل دمشقي المولد؟ لقد فعل ذلك كلّه أني دُعيت إلى العراق مدرّساً.

أرأيتم ما تصنع الصلات الثقافية؟ أرأيتم سحرها؟ إنه والله سحر. أرسلوا مدرّساً سورياً إلى العراق وهاتوا مدرّساً عراقياً إلى دمشق وانثروا المدرّسين المصريين في بلاد العرب جميعاً، تروا أن كلّ واحد منهم صار سفيراً لبلده في البلد الشقيق، سفيراً سفارته سماوية وأثرها خالد. وهاكم مني مثالاً: هل تدرون أني كتبت عن العراق ما يملأ كتاباً كبيراً غير الكتاب الذي طُبع باسم بغداد، وأني أستطيع أن أحدّثكم عن العراق حديثاً جديداً كل يوم

<<  <  ج: ص:  >  >>