لذلك أمضيت زهرة شبابي بين حربَين. على أنها في الواقع ثلاث؛ ذلك أني كنت في حرب مع نفسي التي حملتُها على الحقّ ورُضتها على اتّباع الصراط المستقيم، فوجدت الحقّ لا يعيش في هذه الحياة إلاّ خاضعاً للقوّة، ووجدت طرق الحياة كلها عوجاء ملتوية، فمن لم يَدُر معها مات في مكانه.
وكنت في حرب مع الحياة لأن لها «علوماً» غير هذه العلوم التي تعلّمناها في المدارس وحسبناها كلّ شيء، فمن علومها علم النفاق، وعلم الكذب، وعلم الرياء ... فمن جهل علومها لم تنفعه فيها علوم الكتب ولو أحاط بها وكان قطبها وإمامها.
فكنت أكلّم الناس بلسان لا يفهمه أكثرهم، كنت أقول كلمة الحقّ مهما كانت نتائجها. كنت أقول للحمار «حمار» لا أقول إنه غزال بأُذنَين طويلتين. أهجم على الرئيس القوي في سلطانه حين يتزلّف الناس إليه ويُحنون الرؤوس بين يديه، فإذا زال عنه السلطان وانفضّ مِن حوله إخوان آخر الزمان، كنت أنا الذي يذكر ما عرف عنه من خير، وكنت أنا الذي يدافع عنه وإن لم يكن نالني منه خير (١).
* * *
(١) من أول هذه الحلقة إلى هنا مقتبَس من مقدمة كتاب «في بلاد العرب» (بتغيير طفيف)، وهو من الكتب القديمة التي نشرها علي الطنطاوي في وقت مبكر (سنة ١٩٣٩) ولم يُعِد نشره قط. وهذا الكتاب مفقود، غير أنني وُفّقت في العثور -بين أوراق جدي رحمه الله- على قسم منه يضمّ نحو سبعين صفحة من أوله، وعلى الصفحة الأولى منها اسمه الكامل: «في بلاد العرب: الشام والحجاز والعراق»، ومن=