للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

صحبني الطلاّب وبعض الإخوان إلى المحطّة لأسافر بالقطار إلى البصرة. والوداعُ صعب على أيّ حال، ولكن يبدو أنه أشدّ صعوبة عند السفر بالقطار لأنه يبتعد برفيقك عنك شيئاً بعد شيء، كمن يموت مرّات قبل أن يدركه الموت الذي يُنهي حياته.

ومن الحقّ أن أشهد أن القطارات في العراق من تلك الأيام (أي سنة ١٩٣٧) كانت من أحسن القطارات. وأنا لا أجد -إن سافرت- أمتعَ من السفر في القطار لأن راكب السيارة كالمحبوس في الحاشرة (أي الزنزانة) تتيبّس عضلاته فلا يستطيع تحريكها، وإن كانت تقف أحياناً فيخرج منها فيمشي على رجلَيه، وراكب الطيارة يستطيع أن يمشي فيها من مقعده إلى الحمّام لكنه يبقى محصوراً فيها. ولقد أزعج أولادُ الركاب مرّة مضيفةَ (١) الطيّارة يَعْدون من حولها ويكادون يُسقطون ما تحمل من كؤوس، فغضبَت وقالت لهم: يا أولاد، إما أن تهدؤوا وتسكتوا وإما أن تخرجوا فتلعبوا «برّا». فصارت نكتة.

أمّا راكب القطار، لا سيما إن كان مثل قطار العراق الذي ركبت فيه من بغداد إلى البصرة، فهو يمشي (أي الراكب) من أوله إلى آخره مجتازاً الحافلات كلها في مسلك ضيّق أمام أبواب الغرف المغلقة، لا يدخلها ولا يؤذي من فيها ويرى الدنيا من نوافذ الممرّ. وإن شاء وكان معه الثمن الغالي دخل عربة المطعم فأكل فيها؛ يأكل وهو يرى الدنيا وهي تمرّ به أو يمرّ هو بها، كلّما


(١) وجود نساء مضيفات يسافرن بلا محرم ويَبِتْن حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب.

<<  <  ج: ص:  >  >>