نُقلت إلى البصرة، فما شكرت ولا شكوتُ ولا كنت حامداً ولا ذامّاً، فعرض عليّ أن أكون مدرّساً في الكلّية، وقال إنه مفوض بذلك من سماحة المفتي الشيخ توفيق خالد. فما تردّدت أن قبلتُ؛ لا كُرهاً بالعراق، فقد أحببتها وما زلت أحبّها وأذكر بالخير أيامها، وأستحلي سماع مقاماتها والإصغاء للهجة أهلها الذين لم ألقَ منهم إلاّ النبل والكرم.
ولكن لمّا رأيت أنه ما يزال في بغداد من يكيد لي ويتربص بي الدوائر، وأنهم استطاعوا نقلي إلى البصرة بغير طلب مني (وإن لم يَسُؤْني هذا النقل)، فلربّما استطاعوا إذا انتهت مُدّة عقدي ألاّ يُجدِّدوه لي. فقلت في نفس مقالة الزبّاء:«بيدي لا بيد عمرو».
لذلك قبلت ما عُرض عليّ.
* * *
كان الذي يعمل في بيروت كالعامل في الشام، لأن السفر بينهما كان يومئذ كالسفر من مكّة إلى جدّة؛ متى خطر على بالي خرجت فركبت السيارة من أمام الدار في دمشق فلم أنزل إلاّ أمام الدار التي أقصدها في بيروت.
كانت السيارات في «المَرجة» في دمشق تنادي النهار كله وطرفَي الليل: بيروت، بيروت ... وكان أكثرها من سيارات فورد الصغيرة تحمل أربعة ركّاب: واحداً إلى جنب السائق وثلاثة في الصدر، والأجرة ليرة. والليرة في البلدين واحدة، ما كان للبنان ليرات غير ليرات الشام.