للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

السنة عنده كأنها يوم؛ يكون ابن خمسين وكأنه -مِن تشابه أيامه- ما عاش إلاّ عشر سنين، مطمئنّ النفس ولكنه هامد الحسّ خامد الشعور. والثاني مثال من يعيش في عهود الانتقال في ظل الأحداث الكبار، اليوم عنده -من تبدّل الأحوال- كأنه سنة، يكون ابن خمس عشرة سنة (وقد ناهزتُها أنا في الأيام التي أتكلم عنها) وكأنه -من كثرة مارأى وما شاهد- ابن أربعين سنة، مستوفِز الحسّ مشدود العصب، كله عيون مفتوحة وذهن حاضر.

وقد تجوز في هذا الطريق الطويل بسوق تتزود منها الزاد لسفرك كله، أو تجد مِن أهلها مَن يهديك ويرشدك في مسيرك، عالماً ناصحاً يقوّم اعوجاجك ويحسن توجيهك، أو تجد جاهلاً أو غشّاشاً يصرفك عن الطريق المستقيم ويَعدل بك عن الجادّة الموصلة، فيُضلك بدلاً من أن يهديك. وهذا هو مثال المدرّس الصالح المصلح والمدرّس الفاسد المفسد.

ولقد وصلت الآن إلى المرحلة التي كان لها أعمق الأثر في نفسي وفي فكري وفي سلوكي، مرحلة «مكتب عنبر»؛ أحفل مرحلة بالأحداث الخاصّة في حياتي والأحداث العامّة في حياة بلدي، فيها لقيت أساتذة وقرأت كتباً كان لهم ولها أثر في دنياي وفي آخرتي، وفيها كان أكبر منعطف في طريق عمري وهو موت أبي، وفيها واجهت الحياة وأنا لم أستعدّ لمواجهتها وخضت معركتها وأنا لم أتسلح لخوضها، فعملت معلّماً واشتغلت أجيراً وحاولت أن أكون تاجراً، ثم تداركتني رحمة الله فعدت إلى ما خُلقت له، وهو العلم والأدب. وفيها كانت «نهضة المشايخ»، وفيها كانت «الثورة السورية»، وفيها ابتدأ النضال للاستقلال،

<<  <  ج: ص:  >  >>