للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رحمة الله على الشيخ سلام. لقد كان نادرة الدنيا في طلاقة اللسان وفي جلاء البيان، ولقد عرفت بعده لُسُن الأدباء ومصاقع الخطباء، فما عرفت لساناً أطلق ولا بياناً أجلى. ولست أنسى خطبته عندما أطلّ من شرفة النادي العربي قبل يوم ميسلون على بحر من الناس يموج موَجان البحر، قد ملأ ما بين محطة الحجاز والمستشفى العسكري (الخستة خانة) في بوابة الصالحية (١) وسراي الحكومة (٢) وحديقة الأمّة (المنشية)، وكبّر تكبيرة ردّدَتها معه هذه الحناجر كلها، وأحسَسْنا كأنْ قد ردّدتها معه الخمائلُ من الغوطة والأصلادُ من قاسيون، ثم صاح صيحته التي لا تزال ترنّ في أذني من وراء اثنتين وستين سنة (٣) حتى كأني أسمعه يصيح بها الآن: غورو، لن تدخلها إلاّ على هذه الأجساد.

ولكن غورو دخلها! دخلها لمّا حسبنا أن الحرب تُكتسَب بالحماسة وبالخطب، ثم خرج قوم غورو لمّا عرفنا كيف تُكتسَب الحروب. غورو هذا وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي الذي غلب أوربا كلها مرتين، مرة بسيف القتال ومرة بنبل الفعال، وقف يفاخر عظامه ميتاً وقد كان قومه يرتجفون من بأسه حياً، ولا يفاخر الأموات إلاّ الجبناء، يقول: يا صلاح الدين، لقد عدنا.

حسب من غروره أنه ملك الشام إلى الأبد، كما يحسب هذا المغرور المأفون (بيغن) أنه ملك القدس إلى الأبد. فأين


(١) المحطة باقية، وهي من أجلّ أبنية دمشق، وأختُها الصغرى في المدينة. أما المستشفى فقد قامت في مكانه عمارة «الأركان».
(٢) وهي باقية، أما شارع بغداد فلم يكُن قد فُتح.
(٣) كانت هذه الخطبة أوائل سنة ١٩٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>