شاعر لم يكن يعرف فضلاً (أي زيادة) من عَروض الأوزان ولا سُلَّم الألحان، ولكنه يعرف كيف يعتصر قلبَه بيد الألم وكيف يُذيب نفسه بلهيب الذكريات، ثم يجعل من ذلك أشعاره التي يغنيها على ربابه، فتميل إليه القلوب وتحنو عليه، وتجد عنده الأنس والاطمئنان.
غنّى للإيمان وللوطن وللحب، وأكثر الغناء. ولكن النغمة البارعة التي تجيش بها نفسه لم يتحرك بها لسانه، ولا جرَت بها يده على ربابه إلى اليوم. من أجل هذا كنت تراه -إذْ تراه- حائراً مضطرب الجوانح زائغ البصر، كأنما يفتّش في الفضاء عن شيء أضاعه، يفتّش وراء أفق الزمان عن الشيء الذي لم يجده فيه، فهو لا يفتأ ينظر إلى ماضيه يقلّبه ويجوس خلاله علّه يجد فيه ضالّته، فإذا افتقدها عاد إلى الآتي، يحاول أن يستشفّ بعين الأمل ما خَلْفَ بابه، فلا يشفّ البابُ عن شيء ... أما الحاضر فلا شأن له به ولا يعنيه أمره.
أُعجب به الناس لما عرفوه وأحبوه، ثم ألفوه واطمأنّوا إليه، ثم تعودوا أن يروه ويسمعوه، فأضعفت العادة شعورهم به، فكانوا لا يدرون به إن حضر ولكنهم يفتقدونه إذا غاب ... ثم أصبحوا لا يعنيهم فقده ولا يعزّ عليهم غيابه!
وطرَقَ الحيَّ «شعراءٌ» يضربون على الطبول الكبيرة ويصرخون بأغان فارغة مدوِّية كطبولهم، لا تدعو إلى فضيلة ولا تهزّ عاطفة ولا تمس من النفس موضع الإيمان، ولكنها تدعو إلى الشهوة وتثيرها في الأعصاب، لا تعرِفهم هدآتُ الأسحار ولا يدري بهم فُتونُ