بلدي على هذا كلّه يوماً ولا خمد الشوق إليها ساعة، وكان في قلبي وعلى لساني دائماً بيت الشريف:
وقائلةٍ في الرّكْبِ ما أنتَ مُشتهٍ؟ ... غداةَ جزَعْنا الرملَ، قلتُ: أعودُ
لقد عدت وفي جعبتي مئات من الصور، من كلّ طريف مُعجِب وكل طريف مُطرِب، نثرت عليهم أكثرها وجلّيتها لهم في أحاديثي فرأوا جديداً لا يعرفونه. ولو أنني رجعت من أوربّا وأميركا وفتّشوني لما وجدوا معي عجباً لأنهم يعرفون ألوان الحياة في أوربّا وأميركا، يعرفونها من السينمات والأفلام، ومن الكتب والمجلاّت، ومن ألسنة الراحلين إليها. أمّا بلاد المشرق فما كنت أعرف أنا ولا يعرفون هم من أمرها إلا القليل؛ لم يكن قد زار أندونيسيا قبلي من السوريين إلاّ نفر قلائل، والذين كتبوا عنها أقلّ.
هذه الأحاديث التي أذعتها لم أكتبها، وقد ضاع أكثرها فيما ضاع ممّا حدّثت به (١). أقول هذا وقلبي يملؤه الأسف. وما جدوى الأسف على ميت قد مات ولن يعود إلى الحياة؟
(١) بعض هذه الأحاديث نجا من الضياع فخرج منه كتاب «في أندونيسيا» الذي طُبع أول مرة سنة ١٩٦٠، وكانت نيّة جدي رحمه الله أن يجعل ذلك الكتاب جزءاً من تاريخ الرحلة ثم يُتبعه بآخر يخصصه لأخبار الباكستان والهند (وقد أمضى فيهما شطر رحلته)، لذلك حمل كتاب «في أندونيسيا» في طبعته الأولى هذا الإعلان في آخر صفحة من صفحاته: "ارتقبوا كتاب علي الطنطاوي: «في السند والهند»، وهو يصدر قريباً إن شاء الله". ثم مرت الأيام ولم يصدر الكتاب. وكل =