للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نفوسهم ذكرى، إلاّ ذكرى ما سمعوه وما قرؤوه، وهم ما عاشوه ولا شهدوه.

إنما يعرفه مَن كان هذا اليوم أقصى أمانيه وكان أبعد مراميه، نعرفه نحن إذ مشينا حتى وصلنا إليه خمساً وعشرين سنة وتسعة أشهر، لا نمشي في طريق مزفَّت تتخلّله الأشجار وتحفّ به الأوراد والأزهار، بل كنّا نقحم فيه لهب النار، النار التي أشعلها الفرنسيون في دورنا ومساكننا، ونخوض فيه بِرَك الدم الذي أساله الفرنسيون من عروقنا، نطأ فيه على أجساد الشهداء من أبنائنا وإخواننا، لا نمشي على وقع الطبول العسكرية والمزامير، بل على أصوات الأمهات الثاكلات أو بكاء الأولاد الذين أودت بآبائهم وأمهاتهم قنابل المتحضّرين الذين انتُدبوا علينا ليلقّنونا دروس الحضارة، فإذا هي ثلاثة دروس: درس في الإلحاد، ودرس في الفساد، ودرس في تخريب البلاد ونهب ثروات العباد.

* * *

كانت زوجة أبي لهب، حمّالة الحطب، تجمعه بشوكه فتلقيه في طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن هؤلاء الذين انتُدبوا ليمدّنونا كانوا شراً منها: هي تحمل ما تُطيق حمله يداها، وهؤلاء نقلوه بكل وسيلة نقل قدروا عليها.

ما كان أهل الشام قبلهم كالصحابة الأوّلين ولا كانوا كالتابعين، وكان قد دخل عليهم في دينهم كثير من البِدَع والمُحدَثات، ولكن ما كان فيهم مُلحِد يُظهِر إلحاده ولا سافرة تُعلِن سفورها ولا عاصٍ يجاهر بمعصيته، فضلاً عن أن يفخر بها

<<  <  ج: ص:  >  >>