للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المحكمة يحلّفون الشاهد بأن يقول الحق، كل الحق ولا شيء غير الحق؛ ذلك لأن بعض الحق أقرب إلى الباطل. والذي قرأتموه عن ساعاتي في ذلك الكتّاب صحيح، ولكنه بعض الحق.

كانت تلك الساعات أمرّ مما قرأتم عنها وكان جرحها في نفسي أعمق، وحسبكم أن تعلموا أنه مرّ عليها اليوم سبع وستون سنة ولم أنسَها. ولكني لم أعُد أحسّ ألمها، لأنني حين أتحدث عني وأنا صغير أكون كمن يتحدث عن إنسان آخر، هو أنا وليس أنا. لا أتفلسف ولا آتي بالأحاجي والألغاز، بل أقرر حقيقة. قلت لكم إنه مر في حياتي عشرات من الناس كلهم يحمل اسمي، وكلهم «أنا» بمعنى الكلمة عند زملائنا أساتذة علم النفس، وما منهم إلاّ واحد هو أنا بإحساسي وعاطفتي وفكري.

حسبتموني قد أثّر فيّ الكبر فخرفت؟ أتريدون أن أفسر لكم ما قلت؟ قفوا على الجسر وراقبوا ماء النهر يجري تحت أرجلكم. هل ترون قطرة تقف؟ أليس كل ما ترونه قطرات يدفع بعضُها بعضاً؟ واحدة تروح فلا ترجع أبداً، وواحدة تأتي على إثرها فلا تقف أبداً. إنه أبداً في تبدّل، في تجدّد، لا يمكن -مهما أطلت الوقوف على الجسر ومهما عدت فوقفت من جديد- لا يمكن أن ترى قطرة واحدة مرتين. وكذلك الإنسان، إنه في تبدّل وتجدّد. ولكن هذا التبدّل لا يُفقِد النهرَ اسمه ولا خصائصه، ولا يجعل النيل دجلة ولا دجلة بردى ولا بردى نهر التايمس.

وكذلك الإنسان تبقى شخصيته ثابتة، فلا يصير زيد عَمْراً ولا صالح بكراً.

<<  <  ج: ص:  >  >>