مثل اجترار الإبل، نقرأ ولا يكاد أكثرنا يجاوز القراءة والفهم، ومنا من يقرأ ولا يحاول أن يفهم. حتى إن أحد قدماء طلبة العلم في دمشق -وقد ذُكر الشيخ بدر الدين الحسني- فقال لي: ولكن عنده رحمه الله غرائب. فسألته: ما غرائبه؟ فقال: قرأنا عليه كتاباً، فلما أكملناه قال لنا: يابا (وكانت تلك كلمته يخاطب بها الكبير والصغير)، شو فهمتهم؟ (أي ماذا فهمتم؟) فلما لم نُجِبه كما يريد قال: "يابا، باسم الله"، واستأنف قراءة الكتاب. هذا هو الشيء الذي رآه غريباً، استغرب أن يهتمّ الشيخ بما فهم الطلاّب، والعهد بأكثر العلماء أنهم يكتفون بالقراءة.
وكان أقصى ما يتبعه الدارسون أن يفهموا قول المصنّف رحمه الله. ولقد خبّرني الشيخ عبد المحسن الأسطواني، الشيخ العالِم المعمَّر الذي سبق الحديث عنه، وكان من تلاميذ جدّنا الشيخ محمد الذي قدم الشام من طنطا سنة ١٢٥٥هـ، أنهم كانوا يقرؤون على أحد المشايخ كتاباً في نسخة مخطوطة، فاستعجمَت عليهم عبارة فلم يفهموها، فذهبوا إليه، فتبسّم وأخذ القلم فصحّح العبارة. فعجبوا من ذلك، أي من جرأته على الكتاب يصحّحه من عند نفسه. ثم وجدوا نسخة أخرى مخطوطة صحيحة، فلما رجعوا إليها وجدوا العبارة كما صحّحها.
جملة فيها تحريف ظاهر من ناسخ من النسّاخ، ربما عرف صوابَه تلميذ صغير، ولكن لم يكونوا يجرؤون على مثل ما فعل الشيخ؛ ذلك لأننا كنا نقدّر السلف، وربما زدنا في تقديرهم عن الحدّ. ولا أزال أحفظ كلمة تلقّيناها من مشايخنا:
وكلُّ خيرٍ في اتّباعِ مَن سَلَفْ ... وكلُّ شرٍّ في ابتداعِ مَن خَلَفْ