للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تستحضر بها النفس المُحَسّات (أي المحسوسات) عند غيابها، فأنا أستطيع أن أتخيّل داري في دمشق وأنا في مكة، أي أنني أرى بعين الخيال كل ما كنت أراه فيها بعين الحقيقة. والخيال أحد طرق العلم، وإن لم يكن يُفيد العلم وحده، فالرياضي يتخيّل نتيجة المعادلة قبل حلّها، والشاعر يتخيّل القصيدة قبل أن يُتمّ نَظْمها، والعالِم يتخيّل ثمرة البحث قبل أن يكمله.

غير أن الخيال له حدود، فنحن لا نستطيع أن نتخيّل إلاّ ما أدركناه أو أدركنا أجزاءه من طريق الحواسّ. وإن أبعد الخيال (كتخيّل رائحة حمراء مثلاً، أو ما يقوله المذيع كل يوم: تسمعون تلاوة عطرة من سورة كذا ...) هذا كله مأخوذ من الواقع، ولكننا وضعنا الرائحة حيث يجب وضع اللون والصوت. لذلك يستحيل أن نتخيّل شيئاً من أمور الآخرة على حقيقته، وهذا مصداق قول ابن عباس: «ما في الدنيا ممّا في الآخرة إلاّ الأسماء».

ثم يأتي العقل. والعقل هو القوة المميّزة في الإنسان وهو طريق العلم الصحيح، غير أن العقل لا يستقلّ بإدراك الموجودات كلها لأنه مقيَّد بالزمان والمكان فلا يدرك ما وراء المادّة، ولأن عمله لا يزيد على ترتيب وتحقيق المعلومات التي جاءته من طريق الحواسّ، ولأنه محدود لا يتصوّر غيرَ المحدود (أي اللانهاية)؛ ولذلك يبقى الإنسان على جهل بما وراء المادة حتى يمنحه الله طريقاً آخر للعلم هو «المصدر التوقيفي»، أي طريق الوحي. لا الوحي الذي يفهمه الكتّاب والشعراء ويعنون به الإلهام النفسي، بل الوحي الذي هو نزول الملَك بمعلومات ليست من عند العقل.

<<  <  ج: ص:  >  >>