يمرّ أهل البلد على هذه المدارس فلا يلتفتون إليها، ويقف السياح عليها مُعجَبين بروعة بنائها وجمال نقشها، ويصوّرونها ويحتفظون بصورها ثم يدَعونها ويرحلون عنها. أمّا أنا فقد رأيت في صورة هذه المدرسة ما لا يرون؛ لقد هزّتني هزاً فحرّكَت في أعماقي ذكرياتي، كما تهزّ الشجرةَ المثمرة فيسقط عليك من ثمارها. لقد ردّتني هذه الصورة سبعين سنة إلى الوراء، إلى سنة ١٣٣٧ يوم كنت تلميذاً فيها.
وكنت لمّا جاءني البريد أمسك القلم لأكتب حلقة من هذه الذكريات، فصرفتني هذه الصورة عنها، فرميت القلم وأمسكت عن كتابة الحلقة. وصدق شوقي إذ يقول:
ولو أنّ إنساناً نام ليلة، فلما أصبح وجد معه أهلاً بدلاً من أهله ووجد نفسه في بلد غير بلده، قد تبدّل عليه كل شيء حتى لم يعُد يعرف مما كان يعرف شيئاً. ماذا تحسبونه صانعاً؟ ألا ترون أنه يُجَنّ؟ أنا ذلكم الرجل؛ لقد كانت هذه المدرسة نصف دنياي، والنصف الآخر داري والطريق بينهما، فلا أُرى إلاّ غادياً عليها أو رائحاً منها، أسلك الأسواق والحارات نفسها وأرى الرجال أنفسهم، فإذا أنا أجدني الآن قد فقدت ذلك كله.
ذهبَت دنياي وأهلي وناسي جميعاً، ولكن ما كان ذلك بين عشيّة وضحاها، فليس التطوّر المفاجئ وليست الطفرة من سنن الله في الوجود، بل يكون التبدّل بطيئاً لا يحسّ به البشر، كما يتحرّك العقرب الصغير في الساعة. انظر إليه ترَه ساكناً واقفاً