للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكذلك الدنيا؛ الناس فيها كفِرَق متسلّقي الجبال، يصعدون حتى يبلغوا الذروة التي لا مصعد بعدها، فيهبطون حتى يبلغوا القرارة التي لا مهبط بعدها، فيصعدون.

يولد الإنسان ضعيفاً لا ينطق ولا يمشي، فإذا كبر قوي حتى يغدو الخطيبَ الذي يسوق الجموع بكلمة من فمه أو الشاعرَ الذي يغوص في أعماق النفس أو يطير في سماء الخيال، يرصف الكَلِم درراً وجواهر، وأين الجواهر والدرر من عبقري المقال؟ ويمشي على الأرض بخيول من مركبات الحديد تسابق الريح في مهبّها فتصل قبلها، ثم يعلو في الجِواء على نسور من المعدن فيجاري الأصوات، ويكون أسرع منها فيسبقها. ويصل إلى القمر فيفجع الشعراء والعشّاق بحلم عاشوا عليه دهراً، ويحوّل القمر الذي طالما تغنوا بجماله وسحره إلى حجارة وتراب يطؤونها بأقدامهم! وبعد أن كان لا يفرّق بين الجمرة والتمرة ولا يدري كيف يشرب الماء من الكوب، قَوِي حتى كشف بعقله خفايا الوجود مما كان يظنه الأقدمون غيباً وماهو بالغيب. إن ما جعله الله غيباً يستحيل أن يطّلع عليه بشر، وما يطّلع عليه البشر لا يكون من الغيب: {ولا يُحيطونَ بِشَيءٍ مِن عِلمِهِ إلاّ بما شاءَ}. حتى إذا بلغ أشدّه واستوى على قمة القوة بدأ الضعف: {اللهُ الذي خَلقَكم من ضَعفٍ، ثمّ جعَلَ مِن بَعدِ ضَعفٍ قوّةً، ثُمّ جعَلَ من بعدِ قوّةٍ ضَعفاً وشَيْبةً}.

وكذلك الدول: كنا نحن أعزّ وأكرم وكنا الأعلم، فوقفنا وساروا، فصاروا لمّا ساروا أقوى منا وغدَوا هم العلماء من دوننا.

<<  <  ج: ص:  >  >>