أديب وسيكون لك شأن. وقد كان، فكتب وخطب وعلّم، وكان المفتّش العامّ للغة العربية في الشام يوم كان رَصيفه وسَمِيّه الأستاذ عبد الرحمن الباني مفتّش العلوم الدينية، فصنعا (صنع الله لهما) للدين وللعربية ما يبقى في الناس أثره وعند الله ثوابه.
وأنا من يوم بدأت أكتب عن هذه الرحلة لم يفارق ذكر الموت خاطري، ولكني أحاول أن أتناسى وأن أُبعِد قلمي عن مركز الألم؛ كالذي تدخل تحت جلده شظية من الخشب فتتعفن وينتفخ الجلد ويتورم المكان، ولا يشفيه إلاّ أن يضغط بإصبعه على مكانها ليُخرِجها ثم ينظّف الجلد من أثرها، ولكن مسّ الموضع يؤلمه، فيصرف إصبعه عنه ويدور من حوله من حيث يشعر أو لا يشعر. وكذلك كانت حالي، وإن كان جرح قلبي بفقد ابنتي الذي ذكّرني به هذا الخبرُ لا يندمل ولا يبرأ ولا تذهب آلامه.
ولكن ما لي؟ وكيف أتكلم كما يتكلم الجاهلون الذين لا يؤمنون؟ إني لأرجع إلى نفسي فأسألها أقول لها: ويحك، أئن فقدتُ ابنتي فهل فقدت -لا قدّر الله- إيماني؟ ولو كانت البنت في غيبة لزيارة أختها أو عمّتها هل كنت أبكي لبعدها وأجزع من ذكرها؟ فما لي آمن عليها عند أختها وأخشى وهي عند ربها؟
وهل يُفقَد من يموت؟ لقد قلت من قديم مقالة قرأها الناس مني وسمعوها: إن الجنين في بطن أمه لو أمكن أن يسمعك وأن يفهم عنك ويكلمك وسألته: ما الدنيا؟ لقال لك: إن الدنيا هذه الأحشاء التي أعيش فيها وهذه الظلمة التي أتقلب خلالها. فإن قلت له: ها هنا دنيا البيتُ الواحد منها أوسع من دنياك هذه كلها بمئة ألف ضعف، وإن فيها شمساً وقمراً، وإن فيها براً وبحراً،