الخط ممدود ولكن لا يمشي عليه قطار، والمحطات قائمة ولكن لا يقف عليها مسافر. كانت فيها مواقف الوداع والاستقبال تشهد الآلام والآمال، وكان فيها الناس من كل بلد وكل شعب، فأصبحت لا غادٍ عليها ولا رائحٌ منها، ولا مودّع أسيان ولا مستقبل فرحان.
وإذا بكى الشعراءُ الأطلالَ وقالوا فيها الأشعار لأنها هي ذاتها بقايا قصيدة محَتها الأيام، كل جدار من بناء فيها وكل حجر في هذا الجدار كلمات باقيات من تلك القصائد التي جعلها القِدَم والحرمان قصائدَ عبقريات، يذكر الناس بموتها الحياة التي كانت فيها فتفيض لمشهدها مدامعُ شاهديها ... وإذا كانت بقايا ديار الحبيب الذي راح تُثير كل هذه المشاعر، فأولى بذلك هذه المحطات القائمات وحدها في البراري، محطات الخط الحجازي التي كانت تعجّ بالناس، فما بقي فيها ولا حولها أحد. أفلم يمرّ أحدٌ من الشعراء بهذه المحطات الواقفات منفردات، كالثاكلات على أجداث من مات؟ ألم يُثِر منظرُها في أنفسهم عاطفة ألم يحرّك منها المشاعر؟ ألم تنطلق بوصفها ألسنتهم وأقلامهم؟
كلّ محطة خالية خاوية من محطّات خط الحجاز قصيدةٌ من الجدران والأركان، لا تحتاج إلاّ إلى مَن يترجم عنها بالألفاظ والأوزان. فغطّوا أقلامكم بدموعها واجعلوه مِداد ما تكتبون، فإن كل لَبِنة في كل محطة تبكي، وكل نافذة مخلَّعة المصاريع وكل باب غدا وما عليه باب!