حتى كأنك معهم والحديثَ كأنك تسمعه، فأين ما وراءه من خَطَرات الأفكار ونزعات النفوس، وأين المشاعر التي نشأت عنه والعواطف التي دفعت إليه؟ وهَبْني أوتيتُ بياناً عبقرياً وصوّرتها تصويراً، فهل تَذَكُّر ما كان كالشعور بما هو كائن؟
لقد قدّمت في هذه المذكّرات قصة ردّي على أستاذنا في كلية الآداب، شاعر الشام شفيق جبري رحمه الله، لمّا كتب في كتابه «المتنبي» أن الأدب أُلهِيّة شريفة، وأنشأت في الردّ عليه فصولاً ونشرت في ذلك رسالة مطبوعة تلقّفَتها أيدي القارئين، وكان ذلك سنة ١٩٣٠ (١٣٤٨هـ)، وهأنذا أعود بعد نحو ستّين سنة فأعتذر إليك ياأستاذي، وأقول بأن من الأدب ما هو أُلهِية يتلهّى الكاتب الأديب بما يتخيّل فيها عمّا يرى من حقائق الحياة، وأعني بذلك الأدب الشخصي أو أدب العواطف والذكريات والأماني. فصول جميلة مَن أنعم النظر إليها سُرّ بها، ولكن لم يبقَ في يده شيء منها. فأنا أُلهي نفسي بكتابتها عن الإحساس بفقدها، كالأم تودّع ولدها الذي ركب الطيارة وترك معطفه عندها، فهي تشمّ المعطف وتضمّه كأن صاحبه فيه، وصاحبه قد طار.
هذا ما وجدته لمّا عُدت أقرأ هذه الذكريات؛ لم أجد من الأحداث إلاّ ما يجده الأب الذي يفقد ولده حين يرى أمامه جسده، جسداً كاملاً ولكن بلا روح، ومظهراً ولكن بلا جوهر. حتى هذا القدر الضئيل الذي قدرتُ عليه لم أستوفِه كله، فلقد تركت مما قصصت من ذكريات فجوات أرجأتُ ملأها، ثم بعدتُ في سيري عنها فلم أعُد إليها، وأشياء لم أتحدّث عنها.