فهل تكلّم تاريخ هؤلاء الفرنسيين في آذانهم؟ هل عرفوا لهذا الشعب حقاً؟ هل قدّروا له تضحية؟ هل رفعوا قبّعاتهم عن رؤوسهم حينما كانت تجوز بهم مواكب شهدائه؟ هل خشعت قلوبهم لسيل دمائهم؟ إنهم نسوا تلك الدعوى الكاذبة، دعوى أن أجدادهم هم الذين أعلنوا حقوق الإنسان وأنهم غسلوا بدمائهم صفحة الاستعباد والاستبداد، ونسوا ما كتبه روسّو وفولتير ومنتسكيو وما قاله ميرابو وسييس ولافييت، وما كان يكذب به الفرنسيون على الشعوب إذ يُعلِنون أنهم نصراء المظلومين.
إني ما خططت هذه الكلمات لأؤرّخ فيها جهاد الشام، فإنها تؤلَّف فيه الأسفار الضخام ويخلد حديثه على طول المدى، وما ذكرت نبأ إضراب الخمسين لأتقصى أخباره وأجمع حوادثه، وإنما أردت أن أردّ كذبة ما زلنا نسمعها حتى من الأصدقاء: أن الجلاء إنما جاءنا بلا تعب ولا عناء!
(إلى أن قلت): إنها ما جاهدَت أمة مثل جهادنا ولا حملت مثل ما حملنا. إنا قد رأينا الموت وألِفنا الفقر واعتدنا الجوع، وأصبحَت مدينتنا بلاقعَ وأهلُها مفجوعين ونساؤها ثاكلات، أفيكثر علينا أن ننعم بالجلاء؟ إننا أخذنا حقنا بعون الله ثم بعزائمنا، ولو والله عاد ليستلبَه منا أهلُ الأرض مجتمعين لقارعناهم عليه ونازلناهم دونه حتى نستعيده كاملاً أو نموت. وليس في الدنيا أقوى ممن يريد الموت، لأن الذي يريد الموت لا تخيفه وسائله ولا آلاته.