بالإخلاص وتوحيان بالحب، وفمه الباسم الذي لا ينطق بالفحش ولا يعرف الكذب، وروحه التي تحسّ بها شفّافة تنشر الطهر كأنها قطعة ألماس ينبعث منها مئة شعاع من النور ... هل تستطيع أن تُريني ذلك الطفل وأنا أبصر هذا الرجل؟ إنه منه ولكنه ليس إياه، إنه هو نفسه ولكنه غيره. أترونها أحجية من الأحاجي (أو هي حزّورة أو فزّورة كما يقول العوام)؟ إن الإنسان نفسه أحجيّة الوجود؛ «جرمٌ صغيرٌ وفيه انطوى العالَمُ الأكبرُ»، واقف في مكانه وذهنه يتحرك يقطع ما بين المشرق والمغرب، بل ما بين الأزل والأبد، في أقلّ من ثانية. ضعيف ولكنه قوي، ضعفه محقّق وقوته تتحقق إن كان لها مدد من قوة الله، وإلاّ فهي قوة مزعومة لا تقوى على أهون ما خلق الله من دقائق الحيوانات التي لا تراها عين ولا تلمسها يد، ومنها ما لا يُرى حتى بالمجاهر الكهربية.
لا أقول إن دمشق التي فتحتُ عيني عليها وقضيت صباي فيها كانت خالية من الآثام معصومة من المعاصي، فالبشر بشر، ما كانوا قطّ ملائكة، ولو خلا ذلك من بلد لخلت البلدة التي مشى رسول الله ‘ على أرضها وعاش فيها ودُفن في ثراها، لخلَت مدينة رسول الله على عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو نجا من ذلك جماعة لكان الناجون صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذين كانوا أنقى الجماعات البشرية وأتقاها وأطهرها وأفضلها، حاشى الأنبياء والرسل. ولقد وقع فيها حتى على عهد رسول الله ‘ شيء من المعاصي، من السرقة ومن الزنا، ولكنه قليل قليل حتى ليُعَدّ من النادر، والنادر -كما قيل- لا حكيم له.