للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لقد استمتعنا بثمرات الحضارة ورأينا من جديدها ما كنا نظنه من المستحيلات، ولقد ازددنا علماً بالأرض وقوانين الله فيها، وضاقت مسافة التخلف بيننا وبين من كنا نراهم وحدهم المتمدنين من أهل أوربا وأميركا، وصارت لنا جامعات كجامعاتهم، وقام فينا ومنّا علماء مثل علمائهم، ومن ينطق بألسُنهم (١) ويعرف آدابها مثلهم بل ربما فاقهم.

كل هذا وأكثر منه قد كان، ولكن تعالوا فكّروا معي: ما هو ثمنها الذي دفعناه فيها؟ لقد ربحنا هذا كله فماذا خسرنا فيه من عقيدتنا ومن أخلاقنا ومن كريم سجايانا؟ أخشى أن يأتي يوم نقول فيه ونحن نعضّ بنان الندم حين لا ينفع الندم: خذوا هذا كله، لا نريده، وردّوا علينا ديننا وخلائقنا.

كنّا نعيش على شط بحر الحياة نائين عن لُجّه، فلا غصنا على لآلئه ولا تعرضنا لعضّ كلابه ولا لخطر الغرق فيه. كنا (أعني الطبقة التي أنا منها من العلماء المستورين، لا أعني الأغنياء ولا الموسرين) كنا نحيا حياة ضيقة محدودة، ولكنها سعيدة مجدودة (٢). كانت تسلياتنا قليلة ولكنها نبيلة، ليس عندنا إذاعات ولم تكُن قد اختُرعت، ولا كان الرائي ولا السينمات، إلا سينما واحدة أخذونا إليها فأرونا فِلْماً صامتاً (إذ لم تكُن السينما قد نطقت) عن معركة «جناق قلعة». وكانت هذه السينما في موضع المجلس النيابي، احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة حتى أقيمَ المجلس مكانها


(١) اللسان بمعنى اللغة جمعه ألسُن، أما العضو فجمعه ألسِنة.
(٢) أي محظوظة.

<<  <  ج: ص:  >  >>