مصدّقه! ووجدت الموظفين يجلسون حوله كأن على رؤوسهم الطير فلا يتحركون خشية أن تطير، أما أنا فلم يكن على رأسي إلا طربوشي ... ووجدتهم يعظّمون فيه الكرسي لاينظرون إلا إليه، وأنا إنما أرى الرجل وأكلمه وأعطيه قدر ما يعطيني، فلما رأيته يكلمني بأدب وتهذيب كلمته بتهذيب وأدب، ووجدته يسألني فأجبته عمّا يسأل.
وأدلى بآراء في قضايا طلب فيها رأيي فبينت رأيي فيها، فوافقته في بعض ما قال وخالفته في بعض، وهم يوافقونه على كل ما يقول ولا يخالفونه في شيء. فعجبوا مني ونظروا إليّ وكأن عيونهم تقول لي: إننا نعرف ما تعرفه ونستطيع أن نقول ما قلتَه، ولكنا كبار مجرّبون نريد أن نأكل خبزاً، وأنت شابّ غرير لم تجرّب الحياة ولا يهمّك أكل الخبز.
ولو عرفوني لعلموا كم جرّبت وكم تعبت حتى أكلت وأطعمت أهلي الخبز! وكانت النتيجة أن الرجل زاد في تقديري وأثنى عليّ، ونلت منه بصراحتي وصدقي ما لم ينَله هؤلاء بموافقتهم ومسايرتهم. وودّعني إلى الباب الخارجي وطلب أن أُكثِر التردّد عليه، ولكني جعلتها الزيارة الأولى والأخيرة.
وأصر المدير إلا أن أنام في داره وأصررت على النوم في الفندق، وقلت له: أنت أستاذي وقد علّمتَني الصدق، وأنا أسألك: ألا تريد راحتي؟ قال: بلى. قلت: يا سيدي، إن راحتي في الفندق.