وعدنا نخرق صدر البادية. والباديةُ كالبحر، داخلها مفقود والخارج منها مولود. لا يدري معنى هذا الكلام مَن يقطعها اليوم على طريق مزفَّت (١) يمشي عليه كما يمشي في شوارع المدينة، لا يخشى أن «تغرز» دواليب سيارته في الرمل ولا أن يضلّ في المفاوز ولا أن يتعرّض للمهالك، يقطعها على طريق مزفَّت يمتدّ متّصلاً بلا انقطاع من الدمّام على شطّ الخليج إلى جدّة على سِيف البحر، ومن مكّة إلى اليمن جنوباً، أو إلى بغداد أو طهران ... امتدّت طرق ما كنت أتصوّرها تلك الأيام ولا بالمنام. بل يفهم هذا الكلام مَن أقدمَ -مثلنا- يمشي بسيارته على أرض باقية كما خلقها الله؛ يصعد مع الجبل ويهبط مع الوادي، ويخوض الرملة أو يدور من حولها، مسيرة لا يُدرِكها إلاّ من سارها.
ولكنّا كنّا هذه المرّة في أمان مع «سلامة» وقد أخذ مكانه جنب السائق يقول له: يمين، شمال، اصعد التلّ، تجنّب الرملة، دُر من حول الصخرة، أسرع، أبطئ ... والسائق يسمع ويطيع، ونحن نتغلغل بين هاتيك التلال التي لا يبلغها الحصر. حتى إذا كان الأصيل أبصرنا رملة بيضاء فسيحة، لها منظر البحر في سعته وتموّجه واستوائه أو سهل الزبداني وقد بسط الشتاءُ عليه بساطاً أبيض من ندف الثلج؛ منظر يملأ العينَ بالجمال والقلبَ -من سلوكه- بالخوف، يلوح من ورائها سواد قليل كأنه خيال البنيان أو بساتين النخيل، فقال سلامة: هذه هي القريات، قُرَيّات الملح.
(١) كلمة «المزفّت» فصيحة وردت في الحديث، أما كلمة «مسفلَت» فهي مسخ ما له نسب.