للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المُلحدون و «المبشّرون» وكل داعٍ إلى شرعة الشياطين، ونحن مع هذا كله لا نزال مختلفين.

وقفت بكم على رأس جبل يُشرِف من بعيد على تبوك، ونحن قِلّة من الناس في جبل قَفر في برية منقطعة في ليل بهيم، معرّضون لخطر الضياع أو الهلاك، فلو تركنا الاختلاف مرّة لتركناه ونحن هنا. ولكنّا اختلفنا: أنبيت هنا حتّى يطلع النهار فنمشي في نوره إلى تبوك، أم نصبر على التعب وننزل إليها فننام فيها آمنين؟

ولم يكن علينا أمير مع أن نبيّنا علّمنا في مثل هذه السفرة (ولو كنّا ثلاثة) أن ننصّب علينا أميراً منّا، وطال الجدال وعلت الأصوات، وكنت مع الشيخ ياسين رحمه الله والدليل في سيارة واحدة فأمر السائق بأن يهبط.

ومن أين يهبط؟ إني لا أزال أرى المشهد بعين الخيال من وراء خمسين سنة كاملة: منحدَر مائل ميلاً شديداً ممتلئ بحجارة صغار. فتشهّدت واستغفرت الله واستودعته أهلي وأحبّتي، وأغمضت عيني حتى لا أرى، وأذني حتى لا أسمع صوت الحجارة تتدحرج من تحت دواليب السيارة كأنها سيل ماء يتدفّق! وكان يوم كيوم هبطت مع تلاميذ مدرسة الغوطة من جبل الربوة في دمشق، دقيقته ساعة وساعته يوم، والموت يتربّص بنا في كلّ دورة يدورها الدولاب وكل حصاة يمرّ عليها. وصرنا من ميل السيارة كأننا راكعون في الصلاة لأننا انكفأنا على وجوهنا، ومضت مدّة لست أدري كم هي بلغة (الساعات) ولكني أدري أنها

<<  <  ج: ص:  >  >>