{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} -قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِالتَّاءِ عَلَى الْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ، وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، خَبَرًا عَنِ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ-إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ جِسْمٍ قَائِمٍ، لَهُ ظِلٌّ، {يَتَفَيَّأُ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ بِالتَّاءِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ. {ظِلَالُهُ} أَيْ: تَمِيلُ وَتَدُورُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ، فَهِيَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَى حَالٍ، ثُمَّ تَتَقَلَّصُ، ثُمَّ تَعُودُ فِي آخِرِ النَّهَارِ إِلَى حَالٍ أُخْرَى سُجَّدًا لِلَّهِ، فَمَيَلَانُهَا وَدَوَرَانُهَا: سُجُودُهَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَيُقَالُ لِلظِّلِّ بِالْعَشِيِّ: فَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فَاءَ، أَيْ: رَجَعَ مِنَ الْمَغْرِبِ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَالْفَيْءُ الرُّجُوعُ. وَالسُّجُودُ الْمَيْلُ. وَيُقَالُ: سَجَدَتِ النَّخْلَةُ إِذَا مَالَتْ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَاكُ: أَمَّا الْيَمِينُ: فَأَوَّلُ النَّهَارِ، وَالشِّمَالُ: آخِرُ النَّهَارِ، تَسْجُدُ الظِّلَالُ لِلَّهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الظِّلُّ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ وَقُدَّامَكَ وَخَلْفَكَ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَابَتْ، فَإِذَا طَلَعَتْ كَانَ مِنْ قُدَّامِكَ، وَإِذَا ارْتَفَعَتْ كَانَ عَنْ يَمِينِكَ، ثُمَّ بَعْدَهُ كَانَ خَلْفَكَ، فَإِذَا كَانَ قَبْلَ أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ كَانَ عَنْ يَسَارِكَ، فَهَذَا تَفَيُّؤُهُ، وَتَقَلُّبُهُ، وَهُوَ سُجُودُهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ كُلُّ شَيْءٍ لِلَّهِ.
وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الظِّلَالِ: سُجُودُ الْأَشْخَاصِ.
فَإِنْ قِيلَ لِمَ وَحَّدَ الْيَمِينَ وَجَمَعَ الشَّمَائِلَ؟
قِيلَ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ فِي اجْتِمَاعِ الْعَلَامَتَيْنِ الِاكْتِفَاءُ بِوَاحِدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ" (الْبَقَرَةِ-٧) ، وَقَوْلِهِ: "يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (الْبَقَرَةِ-٢٥٧) .
وَقِيلَ: الْيَمِينُ يَرْجِعُ إِلَى قَوْلِهِ: "مَا خَلَقَ اللَّهُ". وَلَفْظُ "مَا" وَاحِدٌ، وَالشَّمَائِلُ: يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى.
{وَهُمْ دَاخِرُونَ} صَاغِرُونَ. {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إنما أخبر بما لِغَلَبَةِ مَا لَا يَعْقِلُ عَلَى مَنْ يَعْقِلُ فِي الْعَدَدِ، وَالْحُكْمُ لِلْأَغْلَبِ كَتَغْلِيبِ الْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، {مِنْ دَابَّةٍ} أَرَادَ مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ. وَيُقَالُ: السُّجُودُ: الطَّاعَةُ، وَالْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مُطِيعَةٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" (فُصِّلَتْ-١١) .
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute