للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَيْخٍ مِنَ الْأَعْرَابِ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي شَيْخٌ مُتَهَتِّكٌ (١) فِي الذُّنُوبِ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا مُنْذُ عَرَفْتُهُ وَآمَنْتُ بِهِ، وَلَمْ أَتَّخِذْ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا وَلَمْ أُوَاقِعِ الْمَعَاصِي جُرْأَةً عَلَى اللَّهِ، وَمَا تَوَهَّمْتُ طَرْفَةَ عَيْنٍ أَنِّي أُعْجِزُ اللَّهَ هَرَبًا، وَإِنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ مُسْتَغْفِرٌ فَمَا حَالِي؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) }

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا} نَزَلَتْ فِي أَهْلِ مَكَّةَ، أَيْ: مَا يَعْبُدُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي" (غَافِرٍ -٦٠) أَيْ: اعْبُدُونِي، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي" (غَافِرٍ -٦٠) ، قَوْلُهُ: {مِنْ دُونِهِ} أَيْ: مِنْ دُونِ اللَّهِ، {إِلَّا إِنَاثًا} أَرَادَ بِالْإِنَاثِ الْأَوْثَانَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بَاسِمِ الْإِنَاثِ، فَيَقُولُونَ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ لِصَنَمِ كُلِّ قَبِيلَةٍ: أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ فَكَانَ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ وَالْكَهَنَةَ وَيُكَلِّمُهُمْ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا} هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ -أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِنَاثِ الْأَوْثَانَ -: قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أُثُنًا} جَمْعُ جَمْعِ الْوَثَنِ فَصَيَّرَ الْوَاوَ هَمْزَةً (٢) ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: إِلَّا إِنَاثًا أَيْ: مَوَاتًا لَا رُوحَ فِيهِ، لِأَنَّ أَصْنَامَهُمْ كَانَتْ مِنَ الْجَمَادَاتِ، سَمَّاهَا إِنَاثًا لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنِ الْمَوَاتِ، كَمَا يُخْبِرُ عَنِ الْإِنَاثِ، وَلِأَنَّ الْإِنَاثَ أَدْوَنُ الْجِنْسَيْنِ، كَمَا أَنَّ الْمَوَاتَ أَرْذَلُ مِنَ الْحَيَوَانِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِالْإِنَاثِ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ إِنَاثٌ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا" (الزُّخْرُفِ -١٩) {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} أَيْ: وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لِأَنَّهُمْ إِذَا عَبَدُوا الْأَصْنَامَ فَقَدْ أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ، وَالْمَرِيدُ: الْمَارِدُ، وَهُوَ الْمُتَمَرِّدُ الْعَاتِي الْخَارِجُ عَنِ الطَّاعَةِ، وَأَرَادَ: إِبْلِيسَ.

{لَعَنَهُ اللَّهُ} أَيْ: أَبْعَدَهُ اللَّهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَقَالَ} يَعْنِي: قَالَ إِبْلِيسُ، {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} أَيْ: حَظًّا مَعْلُومًا، فَمَا أُطِيعَ فِيهِ إِبْلِيسُ فَهُوَ مَفْرُوضُهُ، وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ: مِنْ كُلِّ أَلْفِ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَتِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِإِبْلِيسَ، وَأَصْلُ الْفَرْضِ فِي اللُّغَةِ: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ الْفُرْضَةُ فِي


(١) في ب: (منهمك) .
(٢) انظر: تفسير الطبري: ٩ / ٢١٠، معاني القرآن للفراء: ١ / ٢٨٨ - ٢٨٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>