للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قَوْلُهُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ" حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ تَعْلِيمًا لِعِبَادِهِ، أَيِ: احْمِدُوا اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، خَصَّهُمَا بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمُ الْمَخْلُوقَاتِ فِيمَا يَرَى الْعِبَادُ، وَفِيهِمَا الْعِبَرُ وَالْمَنَافِعُ لِلْعِبَادِ، {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وَالْجَعْلُ بِمَعْنَى الْخَلْقِ، قَالَ الْوَاقِدَيُّ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ فَهُوَ الْكُفْرُ وَالْإِيمَانُ، إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ يُرِيدُ بِهِمَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ يَعْنِي الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالظُّلُمَاتِ الْجَهْلَ وَبِالنُّورِ الْعِلْمَ.

وَقَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي الْجَنَّةَ وَالنَّارَ.

وَقِيلَ: مَعْنَاهُ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَقَدْ جَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، لِأَنَّهُ خَلَقَ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ قَبْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ.

قَالَ قَتَادَةُ: خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَالظُّلْمَةَ قَبْلَ النُّورِ، وَالْجَنَّةَ قَبْلَ النَّارِ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ فَى ظُلْمَةٍ، ثُمَّ أَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ اهْتَدَى وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ" (١) .

{ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} أَيْ: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَيْ: يُشْرِكُونَ، وَأَصْلُهُ مِنْ مُسَاوَاةِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ، وَمِنْهُ الْعَدْلُ، أَيْ: يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، يُقَالُ: عَدَلْتُ هَذَا بِهَذَا إِذَا سَاوَيْتُهُ، وَبِهِ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ، الْبَاءُ بِمَعْنَى عَنْ، أَيْ: عَنْ رَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أَيْ يَمِيلُونَ وَيَنْحَرِفُونَ مِنَ الْعُدُولِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ) أَيْ: مِنْهَا.

وَقِيلَ: تَحْتَ قَوْلِهِ "ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ" مَعْنًى لَطِيفٌ، وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِ الْقَائِلِ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ بِكَذَا وَتَفَضَّلْتُ عَلَيْكُمْ بِكَذَا، ثُمَّ تَكْفُرُونَ بِنِعْمَتِي.

{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (٣) }

قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَاطَبَهُمْ بِهِ إِذْ كَانُوا مِنْ


(١) أخرجه الترمذي في الإيمان، باب افتراق هذه الأمة: ٧ / ٤٠١، وقال: هذا حديث حسن. وصححه ابن حبان ص (٤٤٩) والحاكم: ١ / ٣٠،٣١. وأخرجه الإمام أحمد: ٢ / ١٧٦، ١٩٧. قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين، والبزار والطبراني، ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات. مجمع الزوائد: ٧ / ١٩٤. وذكره الخطيب في مشكاة المصابيح: ١ / ٣٧ وصححه الألباني.

<<  <  ج: ص:  >  >>